الفصل الثاني

من كتاب الشخصية

للكاتب عبد الله خمّار

 

نماذج أخرى من بناء الشخصية

1- الشخصية المستهترة (مرنرع الثاني والملك فاروق):

        كتب نجيب محفوظ في بدايات حكم الملك الشاب فاروق في مصر ووجود قوات الاحتلال الإنجليزي فيه، روايتين سياسيتين وعاطفيتين في الوقت نفسه، استوحاهما من تاريخ الفراعنة. قدم في الرواية الأولى وهي «كفاح طيبة» شخصية أحمس الأمير الشاب المكافح الذي استطاع بشجاعته وحسن قيادته وسياسته استعادة ملك أبيه وأجداده من الهكسوس وطردهم من مصر. ولم يكن ليتأتى له ذلك لو لم يتمتع بصفات القيادة، وهي الشجاعة والشورى والحلم والرزانة، وتغليب مصلحة بلاده على عواطفه الشخصية. مما يذكرنا بصفات حميد سراج رغم اختلاف الزمان والمكان، فكلاهما يتفقان في الغاية وهي تحرير الوطن، وفي الدافع وهو حب وطنهم وقومهم، وفي الوسيلة وهي الكفاح رغم اختلاف الأدوات والنتائج، وفي مقومات الشخصية التي تجعل كلا منهما قائدا ناجحا. وقدم في الرواية الثانية «رادوبيس» شخصية «مرنرع الثاني» الذي تسيره أهواؤه وتتحكم فيه عواطفه، فيضعها فوق مصلحة بلاده وشعبه، وهو فوق ذلك مستبد برأيه لا يقبل مشورة أحد. غضوب وجموح في غضبه، والشخصيتان في سن الملك فاروق تقريبا. صدرت رادوبيس في عام 1943 وكفاح طيبة في عام 1944 وكان عمر الملك فاروق أربعة وعشرين عاما. إحداهما شخصية إيجابية استعادت عرشا مغتصبا، والثانية شخصية سلبية أضاعت عرشا مكتسبا. وكأنه يقول له ولكل حاكم ومسؤول: هذان نموذجان وطريقان وهذه عاقبة كل منهما، فاختر لنفسك أحدهما وأنت مسؤول عن اختيارك. ولكي يجسد هذه الشخصية لابد أن يضع مخططا لها.

مخطط بناء شخصية مرنرع الثاني:

        لنفرض أن الكاتب وضعه كما يأتي:

  1.الفكرة المستهدفة من خلق شخصية مرنرع هي أن الحاكم أو المسؤول الذي يستهتر بالمسؤولية، وتتحكم فيه أهواؤه وعواطفه ولا يرعى مصالح الشعب، لا يكون أهلا للحكم، فيثور عليه الناس بعد تمجيدهم له، ويكرهوه بعد أن أحبوه، ويخلعوه بعدما بايعوه.

  2.الشخصية المطلوب بناؤها إذن هي شخصية سلبية يجب التركيز فيها على إبراز العيوب التي تؤدي إلى فشل الحاكم أو المسؤول ونقمة الناس عليه.

  3.عرض مقومات الشخصية في نص استهلالي يظهر أهم هذه العيوب: جموح العواطف وشدة الاندفاع، حبه للنساء، التبذير.

  4.الغاية: التمتع بالحياة وباللهو والحب والنساء.

  5.الدافع: جموح العاطفة وتسلط الأهواء.

  6.الوسيلة: تبذير الأموال العامة.

  7.إيراد نصوص أخرى تؤكد هذه الصفات وتضيف صفات أخرى: الاستبداد بالرأي، سرعة غضبه، استهتاره بالمسؤولية.

 

  8.علاقته بمن حوله:

أ- علاقته بالشعب: حب وتمجيد وإجلال له في بداية حكمه، ثم تنقلب الأمور بعد سنة من حكمه إلى نقمة وثورة عليه.

ب- علاقته بالكهنة: علاقة صدام لأنه يريد انتزاع آراضي المعابد منهم.

جـ- علاقته برادوبيس: علاقة حب ووئام.

د- علاقته بزوجته نيتوقريس: علاقة تتراوح بين الحب والصدام والإشفاق.

  9.النهاية التي وصل إليها نتيجة تصرفاته.

10.تحريك عواطف القارئ وجعله يشعر بالنفور من تصرفات مرنرع، ويشعر بالإشفاق عليه عندما يعترف بأخطائه ويواجه الموت بشجاعة من خلال الوصف وسرد الأحداث.

الوصف بواسطة الحوار:

        بدأ الكاتب بناء شخصيته بنص استهلالي، نسمع فيه حديث الناس المجتمعين في انتظار موكب الملك في عيد النيل، ومنه نعرف أهم مقومات شخصيته مرنرع الثاني وعلاقته بمن حوله:

"وقال آخر باهتمام: هذه أول مرة يسعدني الرب برؤية فرعون.

فقال له صاحبه: أما أنا فقد رأيته يوم التتويج العظيم منذ أشهر في نفس المكان.

     ·أنظر إلى تماثيل أجداده الاماجد.

     ·سترى أنه قريب الشبه بجده محتمساوف الأول...

     ·ما أجمل هذا.

     ·أجل... أجل... إن فرعون شاب جميل، لا نظير له في طوله الفارع، وحسنه الباهر...

        وتساءل أحد المتحدثين قائلا: ترى ماذا يخلف حكمه؟ أمسلات ومعابد، أم ذكريات غزو في الشمال والجنوب؟.

     ·إن صدق حدسي فهي الثانية...

     ·ولمه؟

     ·لأنه شاب عظيم البأس.

فهز الآخر رأسه بحذر وقال:

     ·يقال: إن شبابه من نوع جامح، وإن جلالته ذو أهواء عنيفة، يغرم بالحب ويهوى الإسراف والبذخ. ويندفع في سبيله كالريح العاصفة... فضحك المستمع ضحكة خافتة، وهمس قائلا:

     ·وهل في ذلك ما يدعو إلى العجب؟. ما أكثر المصريين الذين يغرمون بالحب ويهوون الإسراف والبذخ... فما بالك بفرعون.

     ·صه... صه...، أنت لا تدري من الأمر شيئا، ألم تعلم أنه اصطدم برجال الكهنوت منذ اليوم الأول لتوليته العرش؟. إنه يريد المال لينفقه في تشييد القصور، وغرس البساتين، والكهنة يطالبون بنصيب الآلهة والمعابد كاملا، لقد منحهم آباء الملك نفوذا وثراء، والملك الشاب ينظر إلى هذا بعين الطمع.

     ·حقا إنه لأمر محزن أن يبدأ الملك حكمه بالاصطدام.

     ·أجل... ولا تنسى أن خنوم حتب، رئيس الوزراء والكاهن الأكبر، رجل حديدي الإرادة، شديد المراس. وهناك أيضا كاهن منف، تلك المدينة المجيدة التي لحقها الأفول على عهد هذه الأسرة الجليلة.

        فارتاع الرجل لهذه الأخبار التي تصك أدنيه لأول مرة، قال:

- إذا فلندع الأرباب جميعا أن تلهم الرجال الحكمة والأناة والرأي السديد.

 فقال الآخرون بإخلاص صادر من الأعماق: آمين... آمين.

        ولاحت من أحد الواقفين التفاتة إلى النيل، فلكز صاحبه بمرفقه قائلا:

     ·أنظر أيها الصديق إلى النهر... لمن يا ترى هذه السفينة الجميلة الآتية من جزيرة بيجة، كأنها الشمس صاعدة من الأفق الشرقي؟.

الأعمال الكاملة (3) رادوبيس ص369

مقومات شخصية فرعون:

        لجأ محفوظ في هذا النص إلى تقنية الحوار ليعرفنا بشخصية "مرنرع الثاني" وقد استخدم هذه التقنية ببراعة فائقة. فحديث الناس الذين يلتقون في الأعياد الوطنية والدينية حديث عفوي. وهم يجتمعون اليوم في عيد النيل في طرقات العاصمة "أبو" لرؤية موكب فرعون ومتابعة مراسيم الاحتفال. وهم في هذا العام يتحدثون عن فرعون الجديد، ويعطون آراءهم عنه، ويتنبؤون بما سيصنع. والمتحاورون لا يعرف بعضهم بعضا، ولا يعرف القارئ عنهم شيئا سوى أنهم من جمهور الشعب الذي أتى إلى العاصمة من كل أنحاء مصر لمتابعة الاحتفال. ويعرف القارئ خصائصه منهم دون تكلف أو تدخل من الراوي، وبصورة غير مباشرة، فما الذي يخبرنا به هذا الحوار؟.

1- الوصف الخارجي: يخبرنا أولا أنه شاب ملفت للنظر بطوله وجماله: "إن فرعون شاب جميل لانظير له في طوله الفارغ وحسنه الجاهر".

2- الوصف الداخلي:

أ- النشأة والبيئة: ويخبرنا ثانيا أنه حفيد محمتساوف الأول أي أنه من الأسرة السادسة التي يعلمنا التاريخ أنها عاشت بين 2423 و2280 ق.م ونعرف إذن أنه ملك من سلالة ملوك، ربِّيَ في القصور ليحكم، وقد توِّج منذ أشهر في المكان نفسه.

ب- الذكاء: لا يشير هذا النص إلى ذكائه، لأنه ليس ملفتا للنظر كصفاته الأخرى.

جـ- ثقافته: لا يشير النص إليها إلا أنه من الواضح أن ثقافته هي ثقافة الأمراء في عصره.

د- المستوى الاجتماعي: واضح في النص فهو ملك البلاد.

هـ- الجانب الانفعالي الوجداني:

                                                               I-المزاج والانفعالات والعواطف: من ذوي المزاج الغضوبي حسب تصنيف أبوقراط الذين يتميزون بالانفعال.

                                                           II-الطباع والسلوك:

                                                     أ‌-قوته وشجاعته: يعلمنا النص أنه شجاع وقوي وأن الجانب الحربي فيه يغلب الجانب الفني والثقافي والديني:

"وتساءل أحد المتحدثين قائلا: ترى ماذا يخلف حكمه؟ أمسلات ومعابد، أم ذكريات غزو في الشمال والجنوب؟

       -إن صدق حدسي فهي الثانية

       -ولمه؟

       -لأنه شاب عظيم البأس"

                                                     أ‌-إسرافه وتبذيره: "يغرم بالحب ويهوى البذخ والإسراف ".

جـ- قلة تدينه: "إنه يريد المال لينفقه في تشييد القصور، وغرس البساتين، والكهنة يطالبون بنصيب الآلهة والمعابد كاملا".

د- حبه للنساء: "إن جلالته ذو أهواء عنيفة يغرم بالحب".

                                       I-الغاية المعلنة في النص: استعادة أموال المعابد والتمتع بها وذلك بتشييد القصور وغرس البساتين (غاية حسية).

 الدافع: الطمع وإشباع أهوائه في الإنفاق والتبذير والحب.

"لقد منحهم آباء الملك نفوذا وثراء، والملك الشاب ينظر إلى هذا بعين الطمع".

الوسيلة: استعمال القوة لمصادرة الأموال والاصطدام بالكهنة.

3- علاقاته بمن حوله:

أ- علاقته بالكهنة: علاقة صدام لأنه يريد الحد من نفوذهم بتجريدهم من أموال المعابد.

        ب- علاقته بالناس: علاقة حب وتمجيد، فهو ملك جديد يتنبؤون بما سيصنع ويدعون له وللكهنة " بالحكمة والأناة والرأي السديد" وينتهي النص ببداية الحديث عن السفينة الآتية من جزيرة بيجة، كتمهيد للحديث عن صاحبتها "رادوبيس" وقد استعمل الكاتب تقنية الحوار نفسها في تقديم شخصيتها من خلال حديث الناس عنها أثناء الاحتفال. ولنترك "رادوبيس" الآن جانبا، فليس هذا مجال الحديث عنها، ولنعد إلى النص فنستنتج منه أن الجانب الانفعالي الوجداني طغى على الجانب العقلي في شخصية فرعون، مما أثر في دوافعه، وحين تكون الدوافع عاطفية وانفعالية تتأثر بها الغايات والوسائل، ويصبح السلوك انعكاسا للعواطف والانفعالات، لا نتيجة منطقية للتفكير السليم والرأي السديد. وحتى الطباع الحسنة تنقلب إلى طباع سيئة تبعا لذلك فالشجاعة تصبح تهورا مادام صاحبها "يندفع في سبيله كالريح العاصفة".

الحبكة المزدوجة:

        وبما أن حبكة الرواية المزدوجة تعتمد على علاقة الحب التي نشأت بين "فرعون" و "رادوبيس" وتطورها من جهة، وعلى علاقة الصدام بينه وبين الكهنة من جهة أخرى يورد الكاتب نصا آخر أثناء وصفه للاحتفال يمهد فيه لتطور الأحداث في الجهتين:

الوصف المباشر:

        "ووقف فرعون في عجلته منتصب القامة، مهيب الطلعة، كأنه تمثال من الجرانيت لا يميل يمنة ولا يسرة، ويصوب بصره إلى الأفق البعيد غير ملتفت إلى الخلق جميعا، ولا إلى هتافهم الصاعد من أعماق القلوب.

        وكان يضع على رأسه تاج مصر المزدوج، ويقبض بيده على السوط الملكي، وبالأخرى على العصا المعقوفة، وقد ارتدى فوق لباسه الملكي كساء من جلد النمر احتفالا بالعيد الديني.

        وأفعمت القلوب حماسة وسعادة، فتعالى الهتاف، فكاد لشدته أن يفزع الطير المحلق في السماء، وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبت فيها حياة فجائية. وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان.

        وأفلت من بين الأصوات الهاتفة صوت يصيح على عجلة: "ليحيا صاحب القداسة خنوم حتب"، فردد هتافه عشرات الأصوات، وأحدث هتافه انزعاجا وأهاج ضجة شديدة، وتلفت الناس يبحثون عن الجسور الذي هتف باسم رئيس الوزراء على مسمع من فرعون الشاب، والجماعة التي ناصرت هذا التحدي العجيب!...".

                ص 376

العلاقتان الأساسيتان:

        وهذا النص هو وصف مباشر أظهر لنا الكاتب في الفقرة الأولى منه كبرياء فرعون، وهتاف الجماهير "الصاعد من أعماق القلوب"، والمعبر عن حبهم له، كما أتم وصفه الخارجي بوصف ثيابه، وقد عرفنا سابقا طوله ووسامته. ثم أرانا مشاعر رادوبيس وهي ترى فرعون للمرة الأولى في الموكب وكيف "دبت فيها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان". إنه الإعجاب بوسامته وعظمته، والإعجاب نوع من الحب، وفي هذه الحالة هو بداية الحب.

        وانتقل الكاتب من "رادوبيس" إلى الأصوات التي عكرت صفو الاحتفال، وهتفت، باسم رئيس الوزراء وكبير الكهنة "خنوم حتب" بدلا من أن تهتف باسم فرعون. وهذا النص إذن يؤسس لتطور العلاقتين: علاقة حب فرعون ورادوبيس، وعلاقة صدامه مع الكهنة، كما يبين لنا موقع الأغلبية العظمى من الجماهير فهي تحبه وتهتف له من الأعماق في بداية حكمه.

        وبعد أن أرانا الكاتب "فرعون" من خلال نظرة الناس إليه وحديثهم عنه، ثم من خلال الوصف المباشر،تابع بناء شخصيته فأرانا إياه على الطبيعة عبر أفعاله وأقواله وانفعالاته وسلوكه فيما يقارب العشرين مشهدا تظهر استبداده برأيه وغضبه على من يخالفه أثناء حواره مع الملكة "نيتوقريس"، ومستشاريه المقربين: كبير حجابه "سوفخاتب" ورئيس حرسه "طاهو" ورئيس وزرائه "خنوم حتب" الذي عزله لأنه عارض رأيه في مصادرة أراضي المعابد، ووضع بدلا منه "سوفخاتب" كبير الحجاب. وأبرز استهتاره بالمسؤولية وتبذيره الأموال العامة، بعد وقوعه في حب الغانية الراقصة "رادوبيس" التي كان ينفق ذهب مصر وفضتها في تزيين قصرها الذي انصرف فيه إلى ملذاته بدلا من الاهتمام بمشاكل المملكة. كما يبين لنا لجوء فرعون إلى الكذب والتآمر في صراعه مع الكهنة لتعبئه جيش قوي بحجة تمرد مزعوم في الجنوب. ولكن الكهنة كشفوا خطته فألبوا جماهير الشعب التي هتفت ضده بعد عام واحد من حكمه، وأصبحت تمقته بعد حبها له لأنه خيب ظنها فيه. وقد اعترف فرعون بأخطائه أمام تمثال أبيه، وهي فضيلة يبرزها الكاتب ضمن فضائله القيادية القليلة ومنها حقنه للدماء ورفضه قتال الشعب، وسحبه للحرس، وشجاعته في مواجهة الموت حيث أصابه سهم مسموم قاتل وجهه أحد المتمردين، ومن ضمن فضائله أيضا طلبه الصفح وهو يحتضر من الملكة "نيتوقريس" والسماح بنقله إلى قصر "رادوبيس" التي مات بين يديها في مشهد عاطفي مؤثر، يؤكد فيه الكاتب على الصبغة العاطفية لشخصية "مرنرع الثاني".

        وهذه بعض النماذج التي تظهر بعض الصفات التي بنى عليها شخصيته:

1- سرعة انفعاله وشدة غضبه:

        "عاد الموكب الملكي إلى السراي الفرعونية، وظل الملك يحافظ على جلاله وهدوئه، إلى أن خلا إلى نفسه، فتبدى الغضب على وجهه الجميل بصورة وحشية، وجبت لها قلوب الجواري اللاتي يخلعن ثيابه، فانتفخت أوداجه وتصلبت عضلات جسمه، وكان سريع الانفعال شديد الغضب، لا تطمئن نفسه حتى تنزل العقاب الصارم بمن أثارها، وكان يدوي في أذنيه الهتاف الأخرق، فيظنه إنذارا جريئا موجها إلى رغباته، فيشتد به الغضب وينذر بالويل والثبور"

ص 378

        وكان عليه أن ينتظر ساعة كاملة، قبل أن يستقبل رجال مملكته الرسميين الذين جاءوا من أقصى البلاد للاشتراك في عيد النيل، ولكنه لم يستطع صبرا، فهرع كالريح الهوجاء إلى جناح الملكة، واقتحم بابها بعنف، وكانت الملكة نيتوقريس جالسة بين وصيفاتها، تلوح في عينيها الصافيتين آي السلام والطمأنينة، فلما رأى الوصيفات الملك، وشاهدن الغضب يصرخ في وجهه، وقفن مرتبكات مضطربات، وانحنين له وللملكة، وانسحبن مسرعات لا يلوين على شيء... ولبثت الملكة جالسة هنيهة، ترمقه بعينين هادئتين، ثم قامت في جلال، ودنت منه، ثم شبت على أطراف قدميها وقبلت كتفه.

ص378

2- اعتباره الحلم ضعفا:

        ونرى ذلك في حواره مع الملكة نيتوقريس:

-أغاضب أيضا يا مولاي؟

كان يحس بالحاجة القصوى إلى إنسان يطلعه على النار الموقدة في دمائه، فارتاح إلى سؤالها وقال بشدة:

-كما ترين يانيتوقريس!

وكانت الملكة تشعر شعورا قويا بعد درايتها بأخلاقه، بأن واجبها الأول هو أن تذهب عنه حدة الغضب إذا أهاجه، فقالت بهدوء وهي تبتسم إليه:

-الحلم أحرى بالملك

        ولكنه هز كتفيه العريضين استخفافا وقال:

-أتوصيني بالحلم أيتها الملكة؟ إنه لثوب زائف يتقنع به الضعفاء.

فقالت الملكة في تألم ظاهر:

-مولاي... لماذا تضيق بالفضائل ذرعا؟"

ص 379

3- استبداده برأيه:

        ويؤكد لنا الكاتب استبداده برأيه في مناسبات كثيرة وهاهو كبير الوزراء "خنوم حتب" يطلب من كبير الحجاب "سوفخاتب" أن يعرض على فرعون طلبات والتماسات هامة بإعادة أراضي المعابد بعد أن صادرها الملك:

"فحدجه الحاجب بنظرة فاحصة وقال:

-لعلها تمس موضوع أراضي المعابد.

فالتمعت عينا الوزير بنور خاطف، وقال:

-هو ذلك يا سيدي.

فقال سوفخاتب بسرعة:

-إن فرعون لا يريد أن يسمع جديدا حول هذا الموضوع. لأن جلالته قال فيه كلمته الأخيرة.

-إن السياسة لا تعرف كلمة أخيرة"

ص 404

        ويؤكد محفوظ مرة أخرى على استبداده برأيه وكرهه أن يعارضه أحد في حواره مع نيتوقريس التي رجته أن يعيد أراضي المعابد:

"واحتدم الغيظ في قلب الملك. لأنه لم يكن يجد عذرا لإنسان لا يصدع بأمره في السر والعلانية. ولا يحتمل أن يرى إنسان غير مايرى"                                                ص 448

        وقد عزل رئيس الوزراء "خنوم حتب" لمعارضته له، وعين بدلا منه "سوفخاتب" كبير الحجاب.

4- استهتار بالمسؤولية:

        ويتابع الكاتب بناء شخصية "مرنرع الثاني" فيكشف لنا عن صفة هامة أخرى هي استهتاره بمسؤولية الحكم وهاهو يزور قصر "رادوبيس" للمرة الأولى بعد أن خطف النسر صندلها الذهبي، ورماه في حجره، وتعرف مستشاراه على صاحبته من الرسوم التي كانت عليه، فتشوق لمعرفتها وترك اجتماعا رسميا هاما في القصر ليرى صاحبة الصندل:

"-كان ينبغي أن أكون مجتمعا برئيس الوزراء الآن، والحق يارادوبيس أنني منذ حادثة النسر فريسة للعمل الشاق، وكنت أبيت نية زيارة قصرك، ولكن لا أجد فرصة مواتية، ولما رأيت هذا المساء يكاد يلحق بالذي سبقه أجلت اجتماعا هاما ريثما أشاهد صاحبة الصندل الذهبي."

        واستولت الدهشة على رادوبيس، وتمتمت قائلة "مولاي" وكانت تعجب من استهتاره الذي دفعه إلى تأجيل اجتماع هام من الاجتماعات التي تبرم فيها مصائر المملكة، لكي يشاهد امرأة شغل قلبه بها ساعة ووجدت عمله جميلا ساحرا لا نظير له بين أعمال العشاق وشعر الشعراء".

ص 423 

5- انصرافه إلى ملذاته وشهواته:

        وحين أصبح سوفخانب رئيسا للوزراء ترك أمور المملكة بين يديه وانصرف إلى الاستمتاع بحبه الجديد، وإشباع شهواته:

"وأحس فرعون في العهد الجديد بطمأنينة، فسكن غضبه، وترك الأمور بين يدي الرجل الذي يثق به، وولى وجهه نحو المرأة التي استولت على نفسه وقلبه وحواسه، ففي جوارها كان يشعر بطيب الحياة وبهجة الدنيا وأفراح النفس"

ص 451

6- تبذيره أموال الدولة:

        ولم يكفه أن منحها الوقت المخصص للأمور العامة، فقد أخذ يغدق عليها وعلى قصرها أموال الدولة:

"وذاع على إثر ذلك أن فرعون يهوى غانية القصر الأبيض ببيجة وأنه يبيت لياليه في قصرها. ثم شوهد الصناع يساقون إلى قصرها جماعات جماعات. ورئيت زرافات العبيد حاملة فاخر الأثاث وثمين الجواهر. وتهامس الكبراء بأن قصر رادوبيس يتحول إلى مثوى من الذهب والمرجان. وأن أركانه تشهد هوى جامحا يتقاضى مصر أموالا لا تعد ولا تحصى".

ص 438

7- غضب الشعب وثورته عليه:

        وقد تحول شعورالشعب الذي كان يهتف باسمه بعد سنة من حكمه إلى مقت: "وجمد الملك في مكانه، وتراجع الوزير وراءه، وجعلا ينظران في صمت محزن إلى الجموع التي لا يحصيها العد، وهي تهدر كالوحوش، وتلوح مهددة بسلاحها، وتهتف بأصوات كالرعد: "العرش لنيتوقريس" "ليسقط الملك العابث".وكانت جنود الحرس تطلق السهام من خلف الأبراج فتستقر في المقاتل , ورد الثائرون بسيل عرم من الأحجار والأخشاب والسهام."

ص 504

8- الاعتراف بالأخطاء :

ووقف الملك أمام تمثال أبيه وقال:

"لقد أورثتني ملكا عظيما ومجدا أثيلا، فما صنعت بهما؟ لم يكد يمضي عام على توليتي حتى شارفت الدمار. واأسفاه لقد أذللت عرشي موطئا للنعال، وجعلت اسمي مضغة الأفواه، واكتسبت لنفسي اسما جديدا لم يطلق على فرعون من قبل، هو الملك العابث."

            وانحنى رأسي الملك الشاب مثقلا خزينا ،ولبث ينظر إلى الأرض بعينين مظلمتين ثم رفعهما إلى تمثال والده، وتمتم:" لعلك وجدت في حياتي ما أخجلك، ولكنك لن تخجل من موتي أبدا"                                                                      ص 506

 

 

التاريخ يعيد نفسه :

        هل تنبأ "محفوظ" بمصير فاروق عند كتابته لهذه الرواية، أم كان يحذره من هذا المصير؟ ومهما يكن جواب هذا السؤال فإن الملك فاروق حوصر في قصره يوم 23 يوليو 1952 وخلع عن العرش للأسباب نفسها التي حوصر من أجلها "مرنرع الثاني": الجري وراء الملذات، وتبذير أموال الدولة، والاستبداد بالرأي والاستهتار بالمسؤولية .مصداقا لقول ابن زريق:

أعطيتُ ملكاً فلم أحسنْ سياسته     كذاكَ من لا يسوسُ الملكَ يُخلعُهُ        

لقد بنى محفوظ شخصيته لتكون عبرة لكل حاكم وكل مسؤول في كل زمان ومكان وعلى كافة المستويات.

نجاح الكاتب في بناء شخصيته :

        ويعتمد نجاح الكاتب في بناء هذه الشخصية المنحرفة على قدرته في تحريك عواطفنا وإظهار نفورنا من العيوب، وإظهار تعاطفنا مع بعض المزايا التي لديها، فليست هنالك شخصية كلها مزايا أو كلها عيوب، ونجاحها في تحريك عواطفنا يعني نجاح الكاتب في إقناعنا بفكرته، كما يعني أن الشخصية مقنعة من الناحية الفنية.

تمرين -1 :

1- هل  تعتقد أن نجيب محفوظ نجح في بناء شخصية مرنرع الثاني؟ علل.

2- ما العواطف المختلفة التي أثارتها فيك هذه الشخصية؟ النفور، الكره، الحقد، الإعجاب، الإشفاق، الرثاء؟ وضح نوع هذه العواطف، وفي أي المواقف في النصوص التي مرت بك؟

تمرين -2 :

1-  رتب عيوب شخصية "مرنرع" حسب خطورتها على سلامة الحكم والقيادة في نظرك ثم وضح الأسباب؟

2-  رتب مزايا شخصيته في نظرك مبينا الأسباب؟

3-  قارن بين صفات "حميد سراج" القيادية وصفات "مرنرع " مبينا نقاط التشابه والاختلاف في الشخصيتين؟

4-  استخرج غاية "مرنرع الثاني" في الرواية، ودوافعه، ووسائله، ثم قارنها بغاية "حميد سراج" ودوافعه ووسائله، مبينا نقاط التشابه أو الاختلاف بينهما، وهل هنالك علاقة بين ذلك وبين حب الشعب أو كرهه للشخصية القيادية؟ علل رأيك.

5-  هل التحكم في الأهواء والعواطف شرط أساسي في نجاح المسؤول، أم أنه ليس شرطا أساسيا؟ وضّح وجهة نظرك مستشهدا بأمثلة من التاريخ والواقع اليومي.

لقراءة الجزء التالي من هذا الفصل انقر هنا: الشخصية الضائعة: الطيب صالح

لقراءة الفصل السابق انقر هنا: الفصل الأول: بناء الشخصية ومقوماتها

 للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا:  الشخصية